مفهوم السحر والطلاسم عبر العصور
تعريف السحر والطلاسم في التراث الإنساني
السحر هو ممارسة غامضة تهدف إلى التأثير في الأحداث أو الأشخاص باستخدام قوى غير مرئية يُعتقد أنها خارقة للطبيعة. ارتبط السحر منذ القدم بمحاولات الإنسان لفهم المجهول والسيطرة على القوى الكونية. أما الطلاسم، فهي رموز وأشكال وأحرف يعتقد السحرة أنها تحمل طاقة خاصة، تُستخدم لتحقيق أغراض مثل الجلب أو المنع أو الحماية.
![]() |
| كتب السحر والطلاسم |
في التراث الإنساني، كان السحر يُعد علمًا له أصوله وقوانينه، ويُمارسه الكهنة والعرافون والروحانيون. ومع مرور الزمن، تنوعت أشكاله بين السحر الأسود والشفائي، وأصبح جزءًا من الثقافة الدينية والشعبية، حيث امتزجت فيه المعتقدات بالطقوس والرموز التي تمثل صلة الإنسان بعالم الغيب.
جذور المعتقدات السحرية في الحضارات القديمة
في الحضارات القديمة، مثل البابلية والمصرية واليونانية، كان السحر جزءًا من النظام الاجتماعي والديني. في بابل، كان السحر يُمارس لحماية الملوك من الأرواح الشريرة، بينما اعتبر المصريون القدماء السحر “قوة إلهية” يتحكم بها الكهنة باسم الآلهة. استخدموا التمائم والنقوش الهيروغليفية والرموز الحيوانية لإحداث تأثيرات روحانية.
أما عند الإغريق، فارتبط السحر بالفلسفة والطب، إذ كان يُعتقد أن الكلمات والأحرف تمتلك طاقة تؤثر في النفس والجسد. هذه المعتقدات شكلت الأساس للعلوم الغامضة التي ظهرت لاحقًا، مثل التنجيم والكهانة، وظل أثرها ممتدًا حتى العصور الوسطى، حيث اعتبر السحر وسيلة لمعرفة المجهول وفهم أسرار الكون.
العلاقة بين الدين والسحر في الفكر الإنساني
منذ القدم، تداخل الدين والسحر بشكل معقد، إذ رأى بعض الناس أن السحر وسيلة للتقرب إلى القوى الإلهية، بينما اعتبره آخرون تحديًا لقدرة الخالق. في الديانات القديمة، كان الكهنة يجمعون بين الطقوس الدينية والممارسات السحرية، ما جعل الفاصل بين العبادة والسحر ضبابيًا.
ومع تطور الشرائع السماوية، مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، بدأ الرفض القاطع للسحر باعتباره شركًا بالله، لأن السحرة يدّعون امتلاك قوى خارقة لا يمنحها إلا الله. في المقابل، بقيت بعض الشعوب ترى في السحر طريقًا لتحقيق الأمنيات والشفاء والحماية من الشر، مما جعل العلاقة بين الدين والسحر صراعًا دائمًا بين الإيمان والخرافة.
السحر في الثقافة العربية قبل الإسلام
قبل الإسلام، كان العرب يؤمنون بقوى غيبية ويتعاملون مع الكهنة والعرافين لمعرفة الغيب أو علاج الأمراض. كان السحر يُمارس من خلال الطلاسم والتعاويذ والتمائم، وغالبًا ما يُستخدم في الحروب أو لجلب الرزق والحظ. اعتقد العرب أن الجن والشياطين هي من تُنفذ أوامر السحر، فكان الساحر يُستعان به لتحقيق النصر أو الانتقام.
كما ظهرت في الجاهلية أساليب مثل “الخط بالرمل” و“العيافة والزجر”، وهي أشكال من التنجيم والعرافة. ومع بزوغ فجر الإسلام، جاءت النصوص القرآنية لتحرر الإنسان من هذه المعتقدات، وتؤكد أن الغيب لله وحده، وأن الاعتماد على السحر والشعوذة نوع من الضلال والشرك بالله.
تاريخ السحر وتطوره في الديانات والحضارات
السحر في الحضارة البابلية والمصرية القديمة
يُعتبر السحر في الحضارتين البابلية والمصرية من أقدم أشكال الممارسات الروحية المنظمة في التاريخ. في بابل، كان الكهنة يُعرفون باسم "الماجي"، وكانوا يجمعون بين الفلك والسحر في طقوس تهدف إلى الحماية من الأرواح الشريرة وإبطال اللعنات.
كانت التعاويذ البابلية تُكتب على ألواح طينية وتُدفن تحت المنازل أو تُعلّق على الجدران. أما في مصر القديمة، فكان السحر يُعرف باسم “هيكا”، وهو علم مقدس يُستخدم في الطب، والتحنيط، وحماية الفراعنة. آمن المصريون أن الكلمات السحرية قادرة على تحريك الآلهة وتنفيذ الأوامر في العالم المادي، فكان السحر جزءًا من الدين نفسه، يمارسه الكهنة داخل المعابد بطقوس صارمة وأدعية مقدسة.
النظرة الفلسفية للسحر عند الإغريق والرومان
عند الإغريق، ارتبط السحر بالفلسفة والعلم، فقد رأى أفلاطون وأرسطو أن السحر نوع من “الطاقة الروحية” التي تؤثر في المادة. ظهرت كتب مثل “الماجيكا” التي جمعت بين الفلك، والرياضيات، والكيمياء، بهدف تفسير الظواهر الغامضة. أما عند الرومان، فقد كانت الطلاسم والتعاويذ تُستخدم في الحياة اليومية للحماية من الحسد والأمراض.
![]() |
| السحر والطلاسم عند الرومان والاغريق |
ومع ذلك، كان السحر يُحاكم أحيانًا كجريمة دينية، خصوصًا عندما يُستخدم ضد الإمبراطور أو الدولة. هذا المزج بين الفلسفة والعقيدة جعل السحر عند الإغريق والرومان علمًا مثيرًا للجدل، يُدرس في الخفاء ويمارَس في السر، كونه يلامس حدود المعرفة الإلهية والطبيعة البشرية في آنٍ واحد.
أثر السحر في العصور الوسطى ومحاكم التفتيش
في العصور الوسطى الأوروبية، أصبح السحر مرادفًا للشعوذة والهرطقة. كانت الكنيسة ترى أن السحرة يتعاملون مع الشياطين مقابل قوى خارقة، فبدأت حملة واسعة لمحاكمتهم. ظهرت محاكم التفتيش التي أحرقت آلاف النساء والرجال بتهمة ممارسة السحر، خصوصًا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
انتشرت كتب مثل “مطرقة الساحرات” التي صنفت أنواع السحر وطرق كشف الساحرات. ورغم القسوة، إلا أن تلك الفترة ساهمت في ترسيخ فكرة “الساحر الشرير” في الثقافة الغربية. ومع مرور الزمن، بدأ الفكر الأوروبي يفرق بين الخداع البصري والسحر الحقيقي، مما مهّد الطريق لولادة العلوم الحديثة التي حلّت محل التفسيرات السحرية للظواهر.
الموقف الإسلامي من السحر وتعليماته القرآنية
جاء الإسلام بموقف حازم تجاه السحر، فعدّه من الكبائر المخرجة من الملة إذا احتوى على شرك بالله. قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. أوضحت هذه الآية أن السحر مصدره الشياطين، وأنه وسيلة للإضلال والفتنة. نبّهت السنة النبوية إلى خطورة الذهاب إلى الكهان والعرافين، وبيّنت أن من يصدقهم فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ.
ومع ذلك، أقر الإسلام بالرقية الشرعية والقرآن كوسائل مشروعة للعلاج من السحر. بذلك، ميّز الإسلام بين العلاج المشروع القائم على الإيمان، والسحر القائم على الاستعانة بالشياطين، مؤكدًا أن الغيب بيد الله وحده.
الطلسمات والرموز الغامضة في الفكر السحري
معنى الطلسم وأصول استخدامه في السحر القديم
الطلسم هو رمز أو نقش يُعتقد أنه يمتلك قوة خفية تؤثر في العالم المادي أو الروحي. يُكتب الطلسم عادةً باستخدام حروف وأرقام وأشكال هندسية معقدة، ويُظن أن ترتيبها يفتح بابًا للتواصل مع قوى خارقة. أصل الكلمة يعود إلى اللغات الإغريقية واللاتينية، حيث كانت تشير إلى “التميمة المقدسة”. استخدمه البابليون والمصريون لحماية القبور والمنازل من الأرواح الشريرة، بينما استخدمه الإغريق لجلب الحظ والشفاء.
![]() |
| الطلاسم واستخدامها في السحر القديم |
مع مرور الوقت، تحوّل الطلسم إلى أداة مركزية في كتب السحر، مثل “شمس المعارف الكبرى”، وأصبح يُكتب على المعادن والجلود والأحجار. يُعتقد أنه يعمل بتأثير الطاقة الكونية أو استحضار الأرواح، وهو ما يجعل الطلسم أحد أكثر رموز السحر غموضًا عبر التاريخ.
الرموز والأرقام والحروف وتأثيرها في الطقوس السحرية
يرى السحرة أن لكل حرف ورقم طاقة خاصة تؤثر في الكون، ولذلك تُستخدم الحروف الأبجدية في الطلسمات بطريقة مدروسة. تُكتب أحيانًا بشكل مقلوب أو متداخل لتخفي معناها الحقيقي عن العامة. كما يُربط كل رقم بكوكب معين أو طاقة روحية محددة؛ فالرقم “7” مثلاً يُعتبر رمزًا للكمال السماوي، بينما يُستخدم “13” كرقم نحس أو شر.
تُستخدم أيضًا الرموز الهندسية مثل المثلث والخماسي للدلالة على القوى الخفية أو استحضار الأرواح. أثناء الطقوس السحرية، تُنقش هذه الرموز على أدوات معينة، وتُتلى تعاويذ مصاحبة لزيادة تأثيرها. ورغم اختلاف الثقافات، إلا أن فكرة “الطاقة الكامنة في الرموز” تبقى جوهر السحر وعموده الأساس.
العلاقة بين الطلسمات وعلم الفلك والتنجيم
يرتبط علم الطلسمات ارتباطًا وثيقًا بالتنجيم، إذ يعتقد السحرة أن مواقع الكواكب والنجوم تؤثر على فعالية الطلسم. لذلك، يُحدد وقت كتابته بدقة وفق حركة القمر أو الكواكب السبعة القديمة. كان المنجمون في العصور الإسلامية واليونانية يرون أن الكون تسيره قوى سماوية، وأن الطلسم يجسد توازن هذه القوى على الأرض. تُستخدم أسماء الأبراج والكواكب داخل الطلاسم، مثل “زحل” للسحر الأسود أو “المشتري” لجلب الرزق.
![]() |
| الطلاسم وعلم الفلك والتنجيم |
هذا الترابط جعل الطلسمات تبدو علمًا دقيقًا أكثر من كونها خرافة. ومع أن الفلك الحديث أبطل تلك الادعاءات، فإن العلاقة بين السحر والنجوم بقيت قائمة في الثقافة الشعبية حتى اليوم، خاصة في كتب التنجيم والسحر المنتشرة على الإنترنت.
أنواع السحر وأشكاله المنتشرة
السحر الأسود والسحر الأبيض: الفروق الجوهرية
ينقسم السحر عند المشتغلين به إلى نوعين رئيسيين: السحر الأسود والسحر الأبيض. يُعرف السحر الأسود بأنه استخدام القوى الخفية في الشر، مثل الإيذاء، أو التفريق بين الأزواج، أو نشر المرض. يعتمد على استحضار الجن والشياطين مقابل طقوس شركية تتضمن الذبائح أو الطلاسم النجسة.
أما السحر الأبيض، فيُروّج له على أنه “سحر الخير” المستخدم في العلاج أو جلب الحظ أو الحماية، لكنه في الحقيقة لا يختلف في جوهره، إذ يستعين بقوى غير مشروعة. كلا النوعين يعتمد على طاقة غامضة لا تستمد من الإيمان بالله، بل من الاستعانة بغيره، مما يجعلها محرّمة في الشرائع السماوية كافة، وإن اختلفت الأهداف الظاهرية لكل منهما.
سحر المحبة والتفريق وسحر المرض
من أشهر أنواع السحر المنتشرة في المجتمعات العربية والإفريقية ما يُعرف بـ"سحر المحبة" أو "التِّوَلة"، ويُستخدم لجعل شخص يحب آخر قسرًا عبر طلاسم أو مشروب مسحور. يقابله سحر التفريق، الذي يُستخدم لإفساد العلاقات الزوجية أو العائلية بإثارة الكراهية والبغضاء.
وهناك أيضًا سحر المرض، الذي يُسبّب أعراضًا جسدية أو نفسية دون تفسير طبي واضح، فيعاني المسحور من آلام أو اضطرابات مستمرة. هذه الأنواع تعتمد على تحكم الشياطين في إدراك الإنسان أو جسده، وتُعد من أخطر صور السحر لأنها تمسّ حياة الناس اليومية وتزرع الفتنة بين البشر، وقد نهى الإسلام عنها بشدة لما فيها من ظلم وعدوان.
النفث في العقد وأعمال السحر المادي
يُعد “النفث في العقد” من أقدم وأخطر صور السحر التي ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4].
يقوم الساحر بربط خيوط أو عقد وهو يتلو تعاويذ شركية أو يستحضر الجن، معتقدًا أن كل عقدة تُحدث أثرًا معينًا في الشخص المستهدف. يُستخدم هذا النوع في الإصابة بالأمراض، أو وقف الرزق، أو تعطيل الزواج.
![]() |
| النفث في العقد - سحر وطلاسم |
أما السحر المادي، فيشمل استخدام أشياء من أثر المسحور، مثل الشعر أو الأظافر، لتفعيل الطلسم. تُدفن هذه المواد في أماكن خفية كالمقابر أو البحار، مما يزيد صعوبة كشفها. هذه الممارسات الخطيرة تؤكد أن السحر فعل مادي وروحي في آنٍ واحد، هدفه السيطرة على إرادة الإنسان وإيذاؤه عن بُعد.
سحر الأوفاق والنيرنجات والدوائر الشركية
يُعتبر سحر الأوفاق أحد أكثر أنواع السحر تعقيدًا، حيث تُكتب مربعات مملوءة بحروف وأرقام تمثل رموزًا كونية يُزعم أنها تستدعي طاقات خفية. أما النيرنجات، فهي كلمات غامضة تُتلى أثناء الطقوس لاستحضار أرواح معينة. في المقابل، تستخدم الدوائر الشركية لرسم فضاء يُعتقد أنه يمنع خروج الجن المستدعى أو يحمي الساحر من أذاه.
تُستعمل هذه الأساليب في أعمال السحر العليا التي تتطلب معرفة دقيقة بالرموز القديمة والفلك والأعداد. ورغم المظهر "العلمي" الذي تحاول إظهاره، فإنها تعتمد على الشرك بالله والاستعانة بالجن. وقد نهى العلماء المسلمون عن حتى الاطلاع على تلك الممارسات لما تحمله من خطر على العقيدة والنفس.
السحر في ضوء الشريعة الإسلامية
النصوص القرآنية حول السحر والسحرة
جاء القرآن الكريم بعدد من الآيات التي تناولت موضوع السحر بوضوح، فبيّن حقيقته ومصدره وآثاره المدمرة على الإنسان والمجتمع. قال تعالى في سورة البقرة: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ...} [البقرة: 102]، وفيها إشارة إلى أن السحر تعليم شيطاني يقوم على الكفر والضلال.
كما ورد في قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}، أن السحر يُستخدم للإفساد بين الناس. القرآن لم ينفِ وجود السحر، لكنه أوضح أنه لا يعمل إلا بإذن الله، وأنه اختبار للناس ليميز الله الصادق من الكافر. وهكذا، كان الموقف القرآني حاسمًا في تحذير المسلمين من تعلمه أو ممارسته.
في السنة النبوية، وردت أحاديث كثيرة تُحذر من الذهاب إلى الكهان والسحرة. قال رسول الله ﷺ: “من أتى عرّافًا أو كاهنًا فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد.” رواه أحمد وأبو داود.
![]() |
| العراف او الكاهن - السحر والطلاسم |
كان النبي ﷺ يُبيّن أن السحرة يدّعون علم الغيب، وهو علم لا يعلمه إلا الله، فيغترّ الناس بقدرتهم المزعومة. وقد ثبت في السيرة أن النبي ﷺ تعرّض لمحاولة سحر من يهودي اسمه لبيد بن الأعصم، فأبطله الله بقراءته سورتي الفلق والناس. هذا الموقف يثبت أن السحر حقيقة، لكنه أيضًا يعلّم المسلمين أن القرآن أقوى سلاح في مواجهته، وأن الاعتماد على الله وحده كفيل بإبطال مكر الشياطين والسحرة.
الرقى المشروعة والرقى المحرّمة
فرّق الإسلام بين الرقية المشروعة التي تقوم على الأدعية القرآنية، وبين الرقى المحرّمة التي تعتمد على ألفاظ غريبة أو استعانة بالجن. الرقية الشرعية تكون بآيات من القرآن مثل الفاتحة، وآية الكرسي، والمعوذتين، وتُقرأ بنية الاستشفاء والتوكل على الله. أما الرقى الشركية، فتحتوي على طلاسم غير مفهومة أو أسماء كائنات مجهولة، مما يجعلها وسيلة للتقرب من الشياطين.
قال ﷺ: “لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا.” رواه مسلم.
إذًا، فالمعيار هو مصدر الرقية ومضمونها؛ فإن كانت بالقرآن والدعاء المأثور فهي شفاء، وإن كانت بطقوس غامضة أو استعانة بغير الله فهي من السحر المحرم.
كيف واجه الإسلام السحر علمياً وروحياً
واجه الإسلام السحر بمنهج شامل يجمع بين العقيدة والعلم والعبادة. من الناحية الروحية، دعا إلى الاعتصام بالله، وقراءة القرآن، والمحافظة على الأذكار والتحصينات اليومية. ومن الناحية العلمية، حث على فهم السحر باعتباره فعلاً نفسياً وشيطانياً لا علاقة له بالقدرات الخارقة للإنسان.
كما نهى العلماء عن الخوض في كتب السحر أو التجربة العملية له، لما فيه من خطر على العقيدة والعقل. وقد اعتبر ابن تيمية أن السحر “تعاون بين الإنسان والشيطان”، بينما رأى الإمام القرطبي أن أفضل علاج له هو التوبة والرقية. وهكذا، وضع الإسلام منهجًا متكاملًا يوازن بين العلم والإيمان لمواجهة هذا الخطر الروحي والاجتماعي.
كتب السحر القديمة والمشهورة في التاريخ
أشهر كتب السحر في الشرق والغرب
عُرفت عبر التاريخ كتب كثيرة تناولت السحر والطلاسم، بعضها اشتهر في العالم الإسلامي، وبعضها في أوروبا والعصور الوسطى. في الشرق، ظهرت مؤلفات تُنسب إلى السحرة القدماء، مثل “غاية الحكيم” المعروف في الغرب، الذي جمع بين الفلك، والطلاسم، والفلسفة.
أما في الغرب، فكانت هناك كتب مثل “جريموريوم فيروم” و“مفتاح سليمان”، التي تضمنت طقوس استحضار الأرواح والسيطرة على الكائنات الخفية. هذه الكتب كانت تُتداول سرًا بين السحرة والكهنة، وغالبًا ما كانت تُكتب بلغة رمزية لتجنب المحاكم الدينية. وبالرغم من خطورتها، فإنها لعبت دورًا كبيرًا في تشكيل التصورات الحديثة عن السحر في الأدب والثقافة الشعبية.
كتاب "شمس المعارف الكبرى" وأسرار انتشاره
يُعد كتاب شمس المعارف الكبرى من أشهر كتب السحر في العالم العربي والإسلامي، ويُنسب إلى الشيخ أحمد بن علي البوني الذي عاش في القرن السادس الهجري. يضم الكتاب فصولًا تتحدث عن أسماء الجن، وطلاسم الأوفاق، وأسرار الحروف والأعداد، وكيفية استخدام القرآن في السحر — وهو ما جعله موضع جدل ديني واسع.
رغم أن العلماء حذروا من قراءته لما فيه من شركيات وتعاليم باطلة، إلا أنه بقي متداولًا بين المهتمين بعالم الغيب والسحر. انتشر الكتاب بشدة في العصر الحديث عبر الإنترنت، وغالبًا ما يُباع في نسخ محرّفة أو ناقصة، مما زاد من غموضه وجاذبيته لدى القراء الباحثين عن الأسرار المجهولة.
كتب السحر في أوروبا والعصور المظلمة
في العصور المظلمة الأوروبية، كانت كتب السحر تُعد كنوزًا محرّمة تُتداول في السر بين السحرة والرهبان المنشقين. من أشهرها كتاب البابا هونوريوس وكتاب أبراملين، وكلاهما يحتوي على طقوس لاستحضار الأرواح والسيطرة على الجن. كانت هذه الكتب تُكتب باللاتينية أو العبرية القديمة وتُرفق بتعاويذ وأسماء شيطانية يُعتقد أنها تفتح “بوابات العالم الآخر”.
ومع صعود الكنيسة، أصبحت حيازة هذه الكتب جريمة يعاقب عليها بالإعدام، مما جعلها رمزًا للتمرد على السلطة الدينية. ومع ظهور الطباعة في القرن الخامس عشر، بدأت هذه الكتب تنتشر سرًا بين المثقفين، وأسهمت في ظهور مدارس سحرية أوروبية مثل “الماجوس” و“الكبّالاه”.
تقييم العلماء لكتب السحر من منظور شرعي
أجمع العلماء المسلمون على تحريم قراءة كتب السحر أو تعلمها، حتى بدافع الفضول، لما تحويه من طلاسم شركية وتعاليم باطلة. قال الإمام النووي: “يحرم تعلم السحر وتعليمه وممارسته، ولو لم يعمل به، لأنه باب إلى الكفر.” كما أكد ابن حجر العسقلاني أن كتب السحر تُفسد العقيدة وتزرع الشك في القلب.
أما بعض الباحثين المحدثين فدرسوا هذه الكتب من منظور تاريخي وثقافي، معتبرينها انعكاسًا لتطور الفكر البشري في فهم الغيب. ومع ذلك، يبقى موقف الإسلام واضحًا؛ فكل ما يتضمن استعانة بالجن أو ادعاء علم الغيب هو باطل، والاطلاع عليه لا يجوز إلا بغرض النقد العلمي والرد الشرعي لا التعلم أو التطبيق.
السحر الحديث والوسائل الجديدة في الشعوذة
السحر الإلكتروني وعصر الإنترنت المظلم
مع تطور التكنولوجيا، ظهر ما يُعرف بـ السحر الإلكتروني، وهو استخدام الإنترنت والتقنيات الرقمية للتواصل مع من يُزعم أنهم “سحرة” أو “وسطاء روحانيون”. تُباع عبر الشبكة طلاسم رقمية، وتُقدَّم خدمات “فك السحر” و“جلب الحبيب” عبر التطبيقات ومواقع التواصل. هذه الظاهرة الخطيرة انتشرت في “الويب المظلم” حيث تُنشر كتب سحر محظورة وتعويذات رقمية يُزعم أنها فعالة عبر الصور أو الأصوات.
![]() |
| السحر والطلاسم الرقمي |
ويستغل المحتالون ضعف الناس وخوفهم من المجهول لتحقيق مكاسب مالية. من منظور علمي وشرعي، هذا النوع من “السحر الرقمي” لا يختلف عن التقليدي في جوهره، لأنه يعتمد على الخداع والتأثير النفسي، ويقود في النهاية إلى التعلّق بغير الله واستنزاف العقول والأموال.
استحضار الأرواح والطقوس الحديثة
استحضار الأرواح أحد أشكال السحر المعاصرة التي اكتسبت شعبية في الغرب ثم انتشرت عالميًا. يعتمد هذا النوع على جلسات تُعرف باسم “السيانس”، يُزعم فيها التواصل مع أرواح الموتى عبر لوحات الحروف الويجا أو الأجهزة الإلكترونية. في الحقيقة، ما يحدث ليس سوى تلاعب من الجن أو تأثير نفسي يوهم الحاضرين بوجود روحٍ تتحدث.
بعض الممارسات الحديثة تستخدم الطاقة الصوتية أو الإضاءة أو الذبذبات لتوليد أوهام حسية، مما يجعلها تبدو واقعية. وقد أكدت دراسات علم النفس أن “استحضار الأرواح” لا يعدو كونه استجابة لاواعية لإيحاء جماعي. ورغم ذلك، يبقى هذا النوع من الطقوس خطرًا على العقيدة والعقل لما يفتح من أبواب الغيب والوسوسة.
الشعوذة والخداع البصري بين الترفيه والاحتيال
تميّز الإسلام بين السحر الحقيقي القائم على الاستعانة بالجن، وبين الخداع البصري أو ما يُعرف اليوم بـ"فن الخفة"، وهو تلاعب يدوي أو بصري هدفه الإبهار فقط. غير أن كثيرين يخلطون بين السحر والشعوذة. فالشعوذة تستخدم أدوات مثل المرايا أو المؤثرات الضوئية لإيهام الناس بحدوث أمر خارق، بينما يعتمد السحر على طقوس غيبية محرّمة.
![]() |
| الخداع البصري - السحر والطلاسم |
ومع ازدهار الإعلام، أصبح بعض المحتالين يستخدمون عروض الخفة غطاءً لأعمال دجل وسحر، مدّعين قدرات خارقة. لذلك شدّد العلماء على ضرورة التمييز بين الفن المشروع القائم على المهارة، وبين الشعوذة التي تهدف لاستغلال عقول الناس وخداعهم، فالأول تسلية، والثاني باب من أبواب الضلال.
كيف يستغل السحرة جهل الناس وضعف إيمانهم
يعتمد السحرة دائمًا على الجهل و الخوف كأدوات للسيطرة. فهم يتقربون من ضحاياهم بادعاء العلم بالغيب أو القدرة على حل مشكلاتهم المستعصية. يستخدمون لغة غامضة وطلاسم غير مفهومة ليبدو عليهم الوقار والغموض، ثم يطلبون أموالًا أو قرابين “لتنفيذ العمل”. في الحقيقة، ما يقومون به هو نوع من الاحتيال النفسي والديني.
كلما قلّ علم الناس بدينهم، زاد تعلقهم بهذه الخرافات. وقد حذر العلماء من هؤلاء السحرة الذين “يبيعون الوهم” باسم الطاقة أو الروحانيات. الطريق الوحيد لإبطال تأثيرهم هو تعزيز الإيمان بالله والعلم الصحيح، لأن الجهل هو الوقود الذي يغذي سوق السحر والدجل في كل زمان ومكان.
طرق الوقاية والعلاج من السحر والطلاسم
التحصين بالإيمان والعبادة
الوقاية من السحر تبدأ بقوة الإيمان بالله والتوكل عليه حق التوكل، فالمؤمن المحصّن بذكر الله لا ينال منه ساحر ولا حاسد. من أهم أسباب الحماية المداومة على الصلوات في أوقاتها، وقراءة القرآن، وخاصة سور البقرة والإخلاص والمعوذتين وآية الكرسي. فهذه الآيات تُعد درعًا روحانيًا يحمي القلب والعقل من الوساوس الشيطانية.
كما أن الالتزام بالأذكار اليومية صباحًا ومساءً، والنوم على طهارة، والحرص على الدعاء، كلها أعمال تقوّي حصانة المسلم وتمنع اختراقه بالسحر أو الطلاسم. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، فالإيمان الحق هو الحصن الأعظم ضد السحر.
الرقية الشرعية من الكتاب والسنة
العلاج المشروع من السحر هو الرقية الشرعية، وهي قراءة آيات وأدعية صحيحة بنية الشفاء دون أي طلاسم أو استعانة بغير الله. من أهم سور الرقية: الفاتحة، البقرة، الفلق، الناس، وآية الكرسي، مع الأدعية النبوية مثل: “أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق”. تُقرأ الرقية على المريض أو على الماء والزيت بنية الشفاء.
![]() |
| الرقية الشرعية من السحر والطلاسم |
وقد كان النبي ﷺ يرقي نفسه وأصحابه بهذه الآيات. يجب الحذر من منتحلي الرقية الذين يطلبون أموالًا كبيرة أو يستخدمون طلاسم غريبة، فذلك انحراف عن المنهج الشرعي. الرقية الصحيحة تكون خالصة لله، قائمة على الدعاء والإيمان، بعيدًا عن السحر أو الخرافة.
الابتعاد عن مصادر السحر والجهل
من أهم خطوات الوقاية الابتعاد عن كل ما يقود إلى السحر أو يشجع عليه، مثل متابعة البرامج التي تروّج للتنجيم، أو قراءة كتب السحر والطلاسم بدافع الفضول، أو زيارة العرافين والمنجمين. فقد قال النبي ﷺ: “من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد”.
كذلك يجب تجنّب الرموز والطلاسم المنتشرة في المجوهرات أو الزخارف التي تحمل معاني شركية، لأنها تُستخدم أحيانًا كأحجبة. نشر الوعي الديني والثقافي من أهم الوسائل لحماية الأجيال من الوقوع في فخ الدجل، لأن العلم الصحيح يطرد الجهل، والجهل هو الباب الذي يدخل منه السحرة إلى العقول.
التوبة واللجوء إلى الله
إذا ابتُلي الإنسان بالسحر أو شارك فيه جاهلًا، فإن باب التوبة مفتوح على مصراعيه. الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾. على المسلم أن يُقبل على الله بالتوبة الصادقة، والاستغفار، والإقلاع التام عن كل ممارسة سحرية. فالله وحده القادر على الشفاء وإبطال كيد السحرة.
كما ينبغي أن يتوجه المصاب إلى العلماء الثقات وطلبة العلم ليتلقى منهم العلاج الصحيح القائم على الرقية والدعاء، بعيدًا عن الدجالين والمشعوذين. بالتوبة الصادقة والاعتماد على الله، يعود الإنسان إلى الطمأنينة واليقين، ويستعيد نور الإيمان الذي يُطفئ ظلمات السحر والضلال.
ختامًا، يتبيّن لنا أن السحر والطلاسم لم تكن يومًا سوى طريقٍ مظلم يقود إلى الجهل والضلال، مهما تجمّل بلباس العلم أو الروحانية. فالسحر في جوهره كفر بالله واعتماد على الشياطين، والطلاسم ما هي إلا رموز باطلة تُستعمل لإضلال العقول واستعباد القلوب. لقد حذّر الإسلام من الانخداع بهذه المظاهر الكاذبة، ودعا إلى الاعتصام بالله وحده، والاستشفاء بكلامه، والاعتماد على الرقية الشرعية بدلًا من الدجل والشعوذة.
ومع تطور الزمان، تغيّرت أشكال السحر لكن جوهره بقي واحدًا؛ استغلال ضعف الإيمان وحبّ الإنسان لمعرفة الغيب. لذلك، يجب على كل مسلم أن يتحصن بالعلم والذكر واليقين، وأن يُدرك أن القوة الحقيقية ليست في الطلاسم أو التعاويذ، بل في الإيمان الصادق والتوكل على الله. فالله وحده هو الحافظ، وهو القادر على إبطال كيد السحرة والمشعوذين.








