يوم عاشوراء


يوم عاشوراء

مظاهر احتفالية عاشوراء : دين وسياسة وخرافة

خلفية تاريخية ودينية

بدأ المسلمون بالاحتفال بعاشوراء منذ حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عقب هجرته إلى المدينة المنورة. وجد النبي اليهود يصومون هذا اليوم احتفاءً بنجاة موسى عليه السلام وشكراً لله على هذه المنة التي أنقذت بني إسرائيل من فرعون وجنوده. حينها، عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أولويته بأخيه موسى وعقد العزم على صيام التاسع والعاشر من محرم مخالفةً لليهود.
استمرت هذه السنة حتى وقعت مأساة كربلاء، حيث استشهد الحسين بن علي رضي الله عنهما وابنته فاطمة، وذلك عندما ثار ضد الحكم الأموي الذي تحول إلى نظام وراثي في عهد معاوية بن أبي سفيان. انتهت الشورى وحلت محلها الوراثة، مما أدى إلى تصاعد التوترات والصراعات بين المسلمين.

التأثير الشيعي والاحتفالات عند المسلمين

استثمر الشيعة مأساة كربلاء لشحذها بشحنات عاطفية ودينية تعبر عن الحزن والندم على خذلان الحسين وأهل بيته. تجسدت هذه المشاعر في طقوس البكاء والعويل وتعذيب النفس بالجلد بالسياط والسكاكين، مما يعبر عن الحزن العميق والنزوع للانتقام.
في المقابل، انتشرت احتفالات عاشوراء بين أهل السنة في العالم الإسلامي، بما في ذلك شمال إفريقيا، كاحتفال سنوي يمزج بين الدين والتاريخ والسياسة والعبادات. تأثرت هذه الاحتفالات بمزيج من العادات الدينية الصحيحة والاحتفالات الشعبية اليهودية والمآثم الشيعية، بالإضافة إلى عادات ومعتقدات محدثة لا أصل لها في الدين.

تأثير الفاطميين والتحولات الثقافية

كان للحكام الفاطميين الشيعة دور كبير في نشر وتشجيع الاحتفال بذكرى عاشوراء في المغرب العربي، حتى أصبحت عادة راسخة لا يمكن الاستغناء عنها. حاولت السلالات الحاكمة بعد الفاطميين، مثل المرابطين والموحدين، اجتثاث هذه العادة أو على الأقل إفراغها من الطابع الشيعي. تم استبدال مظاهر الحزن والبكاء واللطم بمظاهر الفرح والسرور والتوسيع على الأهل والعيال والمساكين.
تميز المغرب الأقصى بالتشبث بعادات عاشوراء ونقلها من جيل إلى آخر، مستندين إلى مجموعة من الأدلة والحجج الصحيحة والمكذوبة لإقناع الخلف باتباع السلف. انتشرت طائفة من العادات في هذه الذكرى في مختلف مناطق المغرب القروية والحضرية.

المظاهر الشعبية والتفسيرات التاريخية

الصوم والأهازيج

يعد صوم العاشر من محرم من السنن النبوية الثابتة. جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عباس: “صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
رغم ذلك، لا يحظى الصيام بقدر كبير من الاهتمام من قبل المحتفلين بذكرى عاشوراء، ربما بسبب تأثر المغاربة بالمذهب الشيعي الذي يكره الصيام في هذا اليوم، حيث يكتفون بالصوم عن الماء تشبهاً بعطش الحسين وأهل بيته.

الأهازيج والألعاب الشعبية

تشهد العديد من المناطق المسلمة أهازيج وألعاباً شعبية تميز احتفالات عاشوراء، وهي تعبيرات اجتماعية وثقافية تعكس البهجة والفرح. من أبرز هذه التقاليد، تلك التي تعتمد على الغناء والرقص الشعبي والألعاب النارية، مما يضفي جواً احتفالياً على المناسبة.

التوسعة على الأهل والعيال

تشمل احتفالات عاشوراء في المغرب أيضاً التوسعة على الأهل والعيال، من خلال تقديم الهدايا والمأكولات الخاصة بهذه المناسبة. تعد هذه العادة إحدى الطرق التي استُبدلت بها مظاهر الحزن واللطم الشيعية بمظاهر الفرح والسرور، كما أنها تساهم في تعزيز الروابط الأسرية والاجتماعية.

الشعائر الدينية والخرافات

بالإضافة إلى العادات الشعبية، تتخلل احتفالات عاشوراء بعض الشعائر الدينية والخرافات. يعتقد البعض أن لهذا اليوم بركات خاصة، مما يدفعهم إلى القيام بممارسات معينة لجلب الحظ السعيد ودفع الشر. رغم أن هذه المعتقدات لا تستند إلى أدلة دينية صحيحة، إلا أنها أصبحت جزءاً من التراث الشعبي المرتبط بعاشوراء.

تعديل العادات

تعتبر احتفالات عاشوراء في المغرب مزيجاً معقداً من الدين والتاريخ والثقافة الشعبية. تبدأ الجذور الدينية لهذه الاحتفالات بصيام النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليوم عاشوراء، وتستمر بتأثير مأساة كربلاء والممارسات الشيعية. على مر الزمن، تداخلت هذه الجوانب مع العادات المحلية والتقاليد الشعبية، لتشكل طابعاً فريداً لاحتفالات عاشوراء في المغرب.
ورغم محاولات الحكام السابقين لاجتثاث أو تعديل هذه العادات، إلا أنها ظلت مستمرة ومتجددة، تعبر عن الهوية الثقافية والدينية للشعب المغربي. ومن المهم التفكر في هذه المظاهر بوعي، والتفريق بين ما هو مستند إلى الدين وما هو مستند إلى العادات والتقاليد، لضمان الحفاظ على جوهر الدين مع احترام التنوع الثقافي.
شركيات عاشوراء: مظاهر الاحتفال في البلدان العربية

أهازيج عاشوراء بين الاحتجاج والأماني

في ذكرى عاشوراء، تردد النساء والفتيات مجموعة من الأهازيج الشعبية المتنوعة، واخص بالذكر المغرب التي تتفاوت دلالاتها وتناقضاتها. تجمع هذه الأهازيج بين الاحتجاج على بعض السلوكات الاجتماعية والدعاء بالخير أو الشر، اعتماداً على مدى تفاعل الناس مع طقوس عاشوراء.
من بين الأهازيج المنتشرة تلك التي تعبر عن الاحتجاج على بعض المظاهر الاجتماعية مثل: "اخرجوا الحاجبات – هذا عيشور عاد جات – بابا عيشور ما علينا لحكام ألالا – عيد المولود كيحكموه الرجال ألالا". كما تتضمن بعض الأدعية بالخير وإنجاب الولد مثل: "عويد فوق عويد .. الله يعطيك وليد"، أو بالدعاء بالشر لمن لم يلتزم بتقاليد عاشوراء: "درجة فوق درجة .. الله يعطيك بنية عرجاء".

مظاهر الحزن والعويل: استلهام من الشعائر الحسينية

يتجلى في الأهازيج الشعبية تعبير الحزن والبكاء والشوق والندم على التفريط في حق "بابا عيشور"، مما يدعو إلى لطم الخدود وشق الجيوب ونتف شعر الرأس: "هذا بابا عيشور صلى وداه الواد – دفنوه في الركية بيضة نقية – حزنوا عليه الشرفاء والمخازنية – نتفوا الشعور دابا يطوالو، ندبوا الحناك دابا يبراو، أحيا واعيشور وأحيا – حالفة على راسي بزيت لا دهنتو – عاشور العزيز علي في الزاوية دفنتو".
هذه الأهازيج تستمد أصولها من الشعائر الحسينية التي يُحييها الشيعة في ذكرى استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنهما. تتضمن هذه الشعائر التطبير (إسالة الدم من الرأس)، ولطم الخدود، والمشي على الجمر، والزنجيل (ضرب الظهور بالسلاسل)، تعبيراً عن الحزن العميق على مقتل الحسين وأهل بيته.

بابا عيشور: رمزية وإيحاءات

من الملاحظ غياب اسم الحسين رضي الله عنه وتعويضه باسم "بابا عيشور"، ويُفسر ذلك بالحظر والمنع الذي مارسته السلطات السنية بعد الفاطميين. حاولت السلطات تخفيف أو تحوير الاحتفالات بذكرى عاشوراء لتجنب ارتباطها بالشعائر الشيعية. ونتيجة لذلك، امتزجت عادات الحزن والبكاء بطقوس الفرح والسرور والقربات كالصدقة والزكاة والتوسعة على الأهل والمساكين.

التراشق بالماء وإشعال النار

يعتبر التراشق بالماء من أكثر عادات عاشوراء انتشاراً في المغرب، حيث يُعرف هذا اليوم بـ"يوم زمزم". تحرص الأسر في البوادي بشكل خاص على الاغتسال بالماء البارد ورش الأولاد والممتلكات والحقول بالماء، اعتقاداً بأن لذلك بركة خاصة في هذا اليوم. يعتقد البعض أن عدم القيام بذلك يجلب الكسل والتلف للممتلكات.
تعود هذه العادة إلى اليهود الذين كانوا يحتفلون بنجاة موسى وهارون عليهما السلام وبني إسرائيل من فرعون وجنوده. يربط البعض هذه العادة أيضاً بتوزيع الشيعة للماء في عاشوراء تذكيراً بعطش الحسين وأهل بيته.

يوم الشعالة: طقوس النار عادات المجوس

من العادات البارزة في احتفال عاشوراء في الدول العربية إشعال النار في يوم مخصص يعرف بـ"يوم الشعالة". توقد النيران بأكبر حجم ممكن، وحولها يرقص الناس ويرددون الأهازيج الشعبية، كما يقفز الأقوياء على النيران في جو من المرح والسعادة.
هذه العادة قد تكون متأثرة بطقس المشي على الجمر في الشعائر الحسينية، التي تهدف إلى تذكير النفس بآلام ومعاناة أهل البيت أثناء محنتهم.

الانحرافات والتناقضات

بالمقارنة بين المنطلقات الأصلية لذكرى عاشوراء والصورة الحالية لمظاهر الاحتفال، يظهر الانحراف الكبير الذي بلغته هذه العادات. تحولت من صور مشرقة في محاربة الظلم والانحياز إلى الحق إلى مظاهر من اللعب واللهو والاعتداء على حرية الأفراد. تشمل هذه الممارسات إهراق المياه العذبة والملونة على المارة، نشر المتفجرات، وتشجيع الأطفال على التسول.

التأثيرات الدينية والتاريخية والثقافية

تحمل مظاهر احتفالية عاشوراء في المغرب مزيجاً معقداً من التأثيرات الدينية والتاريخية والثقافية. بدأت بجذور دينية تمثل صيام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومرورها بمأساة كربلاء والشعائر الحسينية، إلى تأثير الفاطميين ومحاولات التعديل من قبل الحكام السنيين.
رغم محاولات التخفيف من الطابع الشيعي لهذه الاحتفالات، إلا أنها ظلت متجذرة في النفوس والوجدان الشعبي. تمتزج فيها عادات الحزن والبكاء بطقوس الفرح والقربات، مما يعكس التداخل الثقافي والديني. يعكس ذلك تشبث المغاربة بهذه العادات، ولكن يجب التفكر في مدى توافقها مع التشريعات الدينية والتعاليم المذهبية، والتفريق بين الممارسات الصحيحة وما هو مستحدث دون أصل ديني.
تشير هذه المظاهر إلى التحول من طقوس ذات دلالات دينية قوية إلى احتفالات تحمل في طياتها مزيجاً من العادات الشعبية والخرافات، مما يستدعي إعادة النظر في هذه الممارسات وتصحيح المفاهيم لضمان الحفاظ على جوهر الدين مع احترام التراث الثقافي.
فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يصوم يوم عاشوراء، وحث الناس على صيامه؛ لأنه يوم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وجنده. لذلك، يُستحب لكل مسلم ومسلمة صيام هذا اليوم شكراً لله تعالى. وهو اليوم العاشر من شهر محرم، ويُستحب أيضًا أن يُصام يوم قبله أو يوم بعده؛ لمخالفة اليهود في ذلك. وإن صام المسلم الأيام الثلاثة - التاسع، والعاشر، والحادي عشر - فلا بأس في ذلك، حيث رُوي عن النبي ﷺ أنه قال: "خالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده". وقد صح عن النبي ﷺ أنه سُئل عن صوم عاشوراء، فقال: "يكفر الله به السنة التي قبله". 
والأحاديث في فضل صوم عاشوراء كثيرة ومتنوعة.
وفيما يتعلق بموعد صيام عاشوراء هذا العام، يُحتمل أن يكون يوم الإثنين الموافق 1 محرم 1419هـ هو أول يوم من شهر محرم وفقًا للتقويم، إذا كان شهر ذو الحجة ناقصًا 29 يومًا. لذلك، يُستحب للمؤمنين هذا العام أن يصوموا يوم الأربعاء الموافق 10/1 وفقًا للتقويم، ويضيفوا إليه صيام الخميس أو الخميس والجمعة. لأن يوم الأربعاء قد يكون هو اليوم العاشر إذا كان ذو الحجة ناقصًا، أو قد يكون التاسع إذا كان ذو الحجة كاملاً. ومن صام يوم الأربعاء أو الخميس والجمعة، أو صام الثلاثة أيام، فقد وافق السنة، وكان حريصًا على تطبيقها. كما أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر هو سنة مؤكدة عن النبي ﷺ.

فضل صيام يوم عاشوراء وأسباب مشروعيته

صيام يوم عاشوراء يحمل معاني عظيمة تتجاوز مجرد الامتناع عن الطعام والشراب. ففي الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما، نجد أن النبي ﷺ عندما قدم إلى المدينة وجد اليهود يصومون هذا اليوم. وعندما سألهم عن السبب، أجابوا بأن هذا اليوم هو الذي أنجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من فرعون وجنوده. فكان رد النبي ﷺ: "نحن أولى بموسى منكم"، وأمر بصيامه تعظيمًا لهذا اليوم الذي نجى الله فيه أهل الإيمان من بطش الظالمين. رواه البخاري ومسلم. هذا التوجيه النبوي يعكس روح الشكر والاعتراف بفضل الله في إنقاذ المؤمنين من الظلم والطغيان، مما يجعل من صيام يوم عاشوراء تعبيرًا عن الامتنان والاعتزاز بتراث الأنبياء وأتباعهم.

تطور الحكم الشرعي لصيام عاشوراء

في بدايات الإسلام، كان صيام يوم عاشوراء فريضة على المسلمين. ولكن مع نزول فرضية صيام شهر رمضان، تغيرت الأحكام وأصبح صيام عاشوراء سنة مستحبة. وقد أوضح الإمام أبو العباس القرطبي هذا الأمر بقوله: "يمكن أن يقال: أذن الله تعالى له في صيامه، فلما قدم المدينة وجد اليهود يصومونه، فسألهم عن الحامل لهم على صومه؟ فقالوا ما ذكره ابن عباس: إنه يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه". وعليه، صام النبي ﷺ يوم عاشوراء في المدينة وأمر المسلمين بصيامه، حتى فرض صيام رمضان فنسخ وجوب صيام عاشوراء، وبقي على استحبابه. وهكذا، نجد أن التحول من الفريضة إلى السنة لم يقلل من أهمية هذا اليوم بل حافظ على مكانته الفضيلة.

الحكمة من موافقة النبي ﷺ لليهود في صيام عاشوراء

إن صيام النبي ﷺ ليوم عاشوراء قبل فرضية رمضان، واهتمامه بتأكيد هذا الصيام عندما وجد اليهود يصومونه، يعكس حكمة النبي ﷺ في التعامل مع أهل الكتاب واستمالتهم. فقد كان هذا التصرف جزءًا من استراتيجية النبي ﷺ في التقارب مع أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام. ويقول الإمام القرطبي في هذا السياق: "فلم يصم النبي ﷺ عاشوراء اقتداء باليهود؛ فإنه كان يصومه قبل قدومه عليهم، وقبل علمه بحالهم، لكن الذي حدث له عند ذلك إلزامه والتزامه استئلافًا لليهود، واستدراجًا لهم". وقد جاء في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم أن النبي ﷺ كان يحب موافقة أهل الكتاب في أمور لم ينه عنها، كنوع من التقارب والتودد.
إذًا، صيام يوم عاشوراء ليس مجرد طقس ديني، بل هو تجسيد لمعاني الشكر والاعتراف بفضل الله في نجاة المؤمنين، وتأريخ لحكمة النبي ﷺ في دعوته ودوره في توجيه الأمة إلى ما فيه خيرها وصلاحها. صيام عاشوراء يعزز الترابط الروحي مع تراث الأنبياء ويعمق الفهم لمعاني الفداء والنجاة والامتنان لله تعالى.

تعظيم قريش ليوم عاشوراء وصيامه

لقد كان يوم عاشوراء يوماً ذا مكانة عظيمة لدى قريش قبل الإسلام، حيث كانوا يعظمون هذا اليوم بكسوة الكعبة وصيامه. ذكر ابن القيم في كتابه "زاد المعاد" أن قريش كانت تحسب الأيام بالأهلة، وعندما جاء النبي ﷺ إلى المدينة، وجد أن اليهود أيضًا يعظمون هذا اليوم ويصومونه. عند سؤاله عن السبب، أخبروه بأنه اليوم الذي نجّى الله فيه موسى وقومه من فرعون، فصامه شكراً لله. رد النبي ﷺ بأن المسلمين أولى بموسى من اليهود، فصامه وأمر بصيامه، تأكيداً لتعظيمه واتباعاً لسنة موسى عليه السلام. بذلك، أصبح صيام يوم عاشوراء وسيلة لتأكيد التواصل الروحي مع تراث الأنبياء وشكر الله على نعمه.

تعزيز التعظيم بعد الهجرة

عندما أقر النبي ﷺ تعظيم يوم عاشوراء وصيامه، لم يكن هذا التوجيه مجرد تأكيد لتقاليد قريش، بل امتداداً لتعظيم هذا اليوم بما يحمله من دلالات دينية. في الصحيحين، جاء أن النبي ﷺ لم ينكر على اليهود صيامهم ليوم عاشوراء، بل أيدهم وأكد أن المسلمين أولى بموسى منهم. ومن هنا، أمر النبي ﷺ بصيام هذا اليوم، ونادى في الأمصار بصومه وإمساك من كان قد أكل، مما يشير إلى أنه كان يُعظمه ويحث على صيامه شكراً لله، متماشياً مع الشريعة السابقة ما لم يخالفها الإسلام. هذا التأكيد والحرص على صيام عاشوراء يعزز الفهم الروحي والتاريخي لهذا اليوم، ويبرز أهمية الاقتداء بالأنبياء في شكر الله على نعمه العظيمة.

الحكمة من صيام يوم عاشوراء

تأتي أهمية صيام يوم عاشوراء من ارتباطه بحدث تاريخي عظيم، حيث نجى الله موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده. هذا اليوم يُعد تعبيرًا عن شكر الله على هذه النعمة العظيمة. النبي ﷺ صامه وأمر بصيامه، معتبرًا أن الأمة الإسلامية أحق بالفرح والشكر على نجاة موسى من اليهود، الذين انحرفوا عن شريعته ولم يؤمنوا بمحمد ﷺ. الصيام في الإسلام يأتي تعبيرًا عن الشكر لله، كما كان النبي ﷺ يقوم الليل حتى تتفطر قدماه شكرًا لله، وعندما سئل عن ذلك قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟". فصيام عاشوراء يحمل نفس المعنى، حيث صامه موسى عليه السلام شكراً لله، واستمر اليهود في صيامه، ليأتي النبي ﷺ ويؤكد أن الشكر الحقيقي لله يكون من عباد المؤمنين الصادقين.

الحكمة الإلهية والتشريعات السماوية

الله سبحانه وتعالى يشرع لعباده ما يشاء ويختار لهم من التشريعات ما يتناسب مع حكمته البالغة. فقد فضّل بعض الأنبياء على بعض وأعطاهم ميزات وخصائص معينة. قوله تعالى: "وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ" يوضح أن الله هو الذي يختار ويحدد ما يناسب كل زمان ومكان. تخصيص موسى عليه السلام بصيام يوم عاشوراء وتأكيد النبي ﷺ وأمته على هذا الصيام ليس إلا تعبيرًا عن شكر الله واعترافًا بفضله العظيم. فالأنبياء كلهم أخذوا العهد على أقوامهم أن يؤمنوا بمحمد ﷺ ويتبعوه. لذا، السؤال عن سبب تخصيص موسى عليه السلام بهذا الفضل دون غيره من الأنبياء ليس له وجه من الحكمة أو العقل أو الشرع. فالأمور التي يختارها الله تعالى تأتي وفق حكمته المطلقة التي قد لا يدركها البشر، كما قال سبحانه: "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ".
الله سبحانه وتعالى هو الذي يشرع لعباده ما يشاء، ويختار لهم ما ينفعهم، ويمنح بعض الأنبياء فضائل وميزات لم يُعطها لغيرهم. هذا الأمر مبني على حكمته المطلقة التي قد لا يدركها البشر. قال الله تعالى: "وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" (القصص: 68). كما أكد تعالى في موضع آخر: "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ" (البقرة: 253)، وأيضًا "وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا" (الإسراء: 55).
إذًا، صيام يوم عاشوراء هو سنة نبوية تعكس ارتباط المسلمين بتاريخ الأنبياء وشكرهم لله على نعمه، وتعزز الفهم بأن التشريعات السماوية تأتي وفق حكمة إلهية لا تُسأل عن تفاصيلها.

فضل صيام يوم عاشوراء

صيام يوم عاشوراء يُكفِّر ذنوب السنة الماضية، كما جاء في حديث النبي ﷺ: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ" (رواه مسلم 1162). هذا الحديث يبرز عظيم فضل الله على عباده، حيث يمنحهم بصيام يوم واحد تكفيرًا لذنوب سنة كاملة، مما يعكس رحمة الله وفضله العظيم على عباده المؤمنين.

تحري النبي ﷺ لصيام يوم عاشوراء

كان النبي ﷺ يتحرى صيام يوم عاشوراء بشكل خاص نظرًا لمكانته العظيمة. ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ" (رواه البخاري 1867). ومعنى "يتحرى" أي يقصد صومه بقصد تحصيل ثوابه والرغبة فيه. هذا السعي والتحري من النبي ﷺ يعكس لنا أهمية يوم عاشوراء في الإسلام، ويحث المسلمين على اقتداء به واغتنام الفرصة لصيام هذا اليوم المبارك لنيل مغفرة الله ورضوانه.

سبب صيام النبي ﷺ ليوم عاشوراء

صيام النبي ﷺ ليوم عاشوراء وحثه على صيامه يعود إلى ما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ" (رواه البخاري 1865). إن هذا اليوم كان يومًا عظيمًا أنجى الله فيه موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده، مما دفع النبي ﷺ إلى صيامه تعظيمًا له وشكرًا لله، وأمر المسلمين بصيامه تعبيرًا عن ارتباطهم بأنبياء الله وسيرتهم، ولتأكيد أنهم أولى بموسى من غيرهم.

الذنوب التي يكفرها صوم عاشوراء

صيام يوم عاشوراء يكفّر الذنوب الصغائر، أما الكبائر فتحتاج إلى توبة خاصة. قال الإمام النووي رحمه الله: "يُكَفِّرُ (صيام يوم عرفة) كُلَّ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ، وَتَقْدِيرُهُ يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا إلا الْكَبَائِرَ. ثم قال رحمه الله: "صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ، وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ. وَإِذَا وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ... كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ صَالِحٌ لِلتَّكْفِيرِ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يُكَفِّرُهُ مِنْ الصَّغَائِرِ كَفَّرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً كُتِبَتْ بِهِ حَسَنَاتٌ وَرُفِعَتْ لَهُ بِهِ دَرَجَاتٌ، وَإِنْ صَادَفَ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ وَلَمْ يُصَادِفْ صَغَائِرَ، رَجَوْنَا أَنْ تُخَفِّفَ مِنْ الْكَبَائِرِ" (المجموع شرح المهذب ج6). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وَتَكْفِيرُ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَعَرَفَةَ، وَعَاشُورَاءَ لِلصَّغَائِرِ فَقَطْ" (الفتاوى الكبرى ج5).
بذلك، يتبين أن صيام يوم عاشوراء له فضل كبير في تكفير الذنوب الصغائر، وهو من رحمة الله على عباده أن يمنحهم فرصًا متكررة للتوبة والتطهر من الذنوب، مما يعزز من أهمية استغلال هذه الفرص للعودة إلى الله تعالى بقلوب صافية وأعمال صالحة.

شبهة حول صيام عاشوراء والرد عليها

ولمزيد الإيضاح ننقل كلام القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، حيث قال: لم يصم النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء اقتداء باليهود، فإنه كان يصوم قبل قدومه عليهم وقبل علمه بحالهم، لكن الذي حدث له عند ذلك إلزامه والتزامه استئلافا لليهود واستدراجا لهم، كما كانت الحكمة في استقباله قبلتهم، وكان هذا الوقت هو الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه. اهـ.
وأما حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل ـ إن شاء الله ـ صمنا اليوم التاسع.
فقال فيه القرطبي: كان هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تمادى على صومه عشر سنين أو نحوها، بدليل أن أمره بصومه إنما كان حين قدم المدينة، وهذا القول الآخر كان في السنة التي توفي فيها في يوم عاشوراء من محرم تلك السنة، وتوفي هو صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول منها، لم يختلف في ذلك... وقوله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل صمنا اليوم التاسع ـ إنما قال هذا صلى الله عليه وسلم لحصول فائدة الاستئلاف المتقدم، وكانت فائدئه: إصغاءهم لما جاء به حتى يتبين لهم الرشد من الغي، فيحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، ولما ظهر عنادهم كان يحب مخالفتهم ـ أعني: أهل الكتاب ـ فيما لم يؤمر به، وبهذا النظر وبالذي تقدم يرتفع التعارض المتوهم في كونه صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب، وكان يحب مخالفتهم، وأن ذلك في وقتين وحالتين، لكن الذي استقر حاله عليه: أنه كان يحب مخالفتهم، إذ قد وضح الحق وظهر الأمر ولو كره الكافرون. اهـ.
والله أعلم.

وخوب مخالفة اليهود في صوم يوم عاشوراء

لقد ورد في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا يا رسول الله: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله، صمنا اليوم التاسع. قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم" (رواه مسلم، كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء). وفي رواية للإمام أحمد في المسند، والبيهقي في السنن، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود: صوموا قبله يوماً، وبعده يوماً" (قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام). وفي رواية أخرى للإمام أحمد وابن خزيمة: "صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده" (كما عزاه ابن القيم في زاد المعاد، وفي سنده ابن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ).

مراتب صوم عاشوراء

استناداً إلى هذه الأحاديث، تتحدد مراتب صيام يوم عاشوراء إلى ثلاث مراتب. قال الإمام ابن القيم: "فمراتب صومه ثلاثة: أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم. وأما إفراد التاسع، فمن نقص فهم الآثار، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب" (زاد المعاد لابن القيم، 2/75). وقد ذكر هذه المراتب الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/311).
أولاً، أكمل المراتب هي صيام يوم قبله ويوم بعده، أي صيام التاسع والعاشر والحادي عشر من محرم، وهذا لتحقيق المخالفة التامة لليهود والنصارى. ثانياً، صيام التاسع والعاشر فقط، وهو ما عليه أكثر الأحاديث. ثالثاً، إفراد يوم عاشوراء بالصيام وحده، وهذا أدنى المراتب ولكنه ما يزال مستحباً ومؤجوراً.
هذه المراتب تعكس الحرص على مخالفة اليهود والنصارى، والتأكيد على أهمية هذه المناسبة الدينية، والتعبير عن الشكر لله تعالى على إنجاء موسى عليه السلام وقومه من فرعون. كما أنها تبرز تنوع الاجتهادات في كيفية تحقيق هذه الفضيلة، مما يعزز من فهمنا للشريعة ويتيح للمسلمين خيارات متعددة لتحقيق الأجر والثواب.
والله أعلم.‏

تعليقات